كان لرجل ابنة صغيرة، كانت هي وحيدته التي يحبها جداً. عاش من أجلها، وكانت هي التي تملأ حياته. لذلك فحينما مرضت ”شيم“ (وهذا هو اسمها) ولم تفلح في علاجها من مرضها كل مجهودات أمهر الأطباء؛ صار والدها كمثل إنسان مجنون، يجوب كل مكان لكي يستعيد لها صحتها. ولم تفلح أفضل مجهوداته، وأخيراً ماتت الطفلة
وبموت الطفلة، صار الرجل رافضاً لكل تعزية، وانفرد في عُزلة مُرَّة، وأغلق بابه على نفسه دون كل أصدقائه العديدين، رافضاً أية محاولة تُعيد له صوابه وتردُّه إلى نفسه العاديَّة البسيطة الأولى
وفي ليلة من الليالي، رأى حلماً، إذ رأى في منامه كأنه في السماء يُشاهد موكباً كبيراً من الملائكة الصغار، كانوا يسيرون في صفٍّ واحد، وكان واضحاً أنه بلا نهاية، متوجِّهين تجاه عرش الله العظيم اللامع ببياض أنصع من الثلج
كان كل ملاك صغير لابساً ثوباً أبيض ويحمل في يده شمعداناً. لكنه لاحظ أن شمعدان أحدهم غير مشتعل، كان مُطفَأً
ثم حدَّق النظر فإذا بالملاك حامل هذا الشمعدان المُطفأ هو ابنته حبيبته
فاندفع نحوها ما أدَّى إلى اضطراب الموكب، وأمسك ذراعيها، مُلاطفاً إيَّاها بحنوٍّ، ثم سألها
ما هذا، يا عزيزتي، إن شمعتك هي الوحيدة المُطفأة؟
فردَّت عليه
يا أبي، كثيراً ما يُشعلونها لي، لكن دموعك دائماً تُطفئها
ثم استيقظ من حلمه
كان الدرس جدَّ واضحاً، وبان أثره للتو. فمنذ تلك الساعة لم يَعُدْ منعزلاً، بل خرج وعاد يندمج ويختلط مع أصدقائه القدامى. وذلك حتى لا تعود شمعة ابنته تنطفئ بسبب دموعه التي لا جدوى منها، وصار يُبشِّرهم بمجد القيامة التي كانت للمسيح، والتي ستكون لنا جميعاً إن كنا لا نحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم 1تس 4: 13
«لأنك نجَّيتَ نفسي من الموت. نعم ورجليَّ من الزَّلَق، لكي أسير قدَّام الله في نور الأحياء» (مز 56: 13).
عُلهُم في موضع خضرة على ماء الراحة في فردوس النعيم. الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهُّد في نور قديسيك أوشية الراقدين
التوبة النقية هي مفتاح كل الفضائل
اهتموا يا أولادي بخلاص أنفسكم، وارجعوا إلى الرب بتوبة نقية من الغش، وببكاء وتضرُّع اعترفوا بمناقصكم، ولا تكونوا كالبهيمة التي لا حسَّ لها ولا حكمة عقل، تقع في حفرة وتعود إليها
واعلموا أن التوبة قائمة الآن ومستعدَّة، وكل الفضائل تلحقها، لكل مَن يُجاهد فيها، لأن شأن التوبة جليل، وعظيم هو حُسن عاقبتها إلى الأبد. والذين يثبتون على مرارتها، ويتمسَّكون بمسلكها، ولا تتغيَّر قلوبهم عنها؛ يأخذون أجراً عظيماً عنها، وينالون الملكوت بسببها، لأن التوبة النقية مفتاح كل الفضائل، وبدء كل صلاح، وسلَّم الخيرات الأبدية، والذي يقتنيها يسهل عليه باقي الوصايا شيئاً فشيئاً
ولكن التوبة ليست هي عن خطايا الجسد فقط، وإنما عن كل الخطايا سواء للجسد أو للنفس. وكل مَن اجتهد فيها فهو الرجل الكامل الذي بدأ يبني على الصخر
يا أولادي، أنا أفزع إلى الله مرتعداً من أجلكم، حتى لا تُصطادوا بفخ الغفلة ولا تميل قلوبكم على اعتياد التهاون، لأن ذلك يُبعدكم عن حرارة التوبة، ويُورِّثكم الندامة في النهاية، حيث لا ينفع حينئذ ندم. فما دمتم في الجسد، فامسكوا التوبة ولا تدعوها تفلت منكم؛ لأن كل مَن فارقها، فقد فارقته الرحمة وملكوت السموات. اضرعوا دائماً وابكوا بكاءً قدَّام مخلِّصنا، حتى تستحقوا سماع الصوت: «مغفورة لك خطاياك»! صالحٌ هو مخلِّصنا، وهو مُحب للبشر، يفرح بتوبتكم، ويطلب من الآب لأجلكم، ولكن لا تتهاونوا أنتم بطيبة قلبه وترجعوا إلى خطاياكم، فتصبح الطلبة من أجلكم بلا نتيجة
اعلموا أن صوم الأربعين المفروض علينا، ليس الجهاد به وحده يدخل بنا إلى الملكوت، وإنما صوم الأربعين هو الخميرة للسنة كلها. فيجب أن نوفيه باحتراس، لأن الخميرة إذا فسدت، أفسدت العجين كله. والصوم مربوط بعدة فضائل، لا يُثمر إلا معها وبها، وجميعها أنتم تعرفونها. فاحترسوا في صومكم من الغفلة، لأن أعداءنا الذين يحسدوننا إذا هم ظفروا بنا لن يَرْثوا لهلاكنا، وكلما غفلنا نحن، ازدادوا هم حرصاً على هلاكنا. فلا تُفرِحوا أعداءنا، ولا تُكمِّلوا مشيئة مُبغضينا، لأنهم يريدون تبديد أتعابنا