في هذا اللوحة الانجيلية اعلان لثلاثة: الصبي يسوع معلم الهي يكشف سرّ تجسده، العائلة المقدسة ايقونة كل عائلة مسيحية، واهمية التربية العائلية
ظهور في الهيكل
بعد ظهور الرب في الميلاد، ظهر في الهيكل معلماً يدهش العلماء، وهو في الثانية عشرة من العمر. علّم العلماء بدل ان يعلموه. وظهر ابناً للآب السماوي، منصرفاً ابداً الى تتميم ارادته. الهيكل هو بيته الاساسي، بعد ان قدّمه والداه لهيكل الرب وهو في الشهر الاول من عمره. فبات هيكل الكنيسة مكان اللقاء بين الانسان والثالوث. لم تفهم مريم ولا يوسف جوابه الخفي. بل ظنت امه ان نبوءة سمعان الشيخ عن ان سيفاً سيجوز قلبها، قد تحققت. ستظل حياة يسوع احتجاباً وظهوراً، لانها في الاصل كذلك: فالمحتجب منذ الازل ظهر للعيان بميلاده من البتول؛ الكلمة خالق الكون الخفي يظهر جنيناً في بطن الام الممتلئة نعمة؛ الذي باح بسره للانبياء يظهر معلماً وهو الكلمة؛ احتجب عن الحكماء والفهماء وظهر للاطفال المتواضعين؛ احتجب وراء اغشية الطبيعة البشرية بضعفها وجوعها وآلامها وظهر متجلياً باشعة لاهوته على جبل طابور؛ احتجب مائتاً بالذل على الصليب وظهر حياً ممجداً قائماً من الموت؛ احتجب كخيال وروح في الجسد القائم من القبر وصعد الى السماء بالجسد الممجد؛ هذا المحتجب تحت اشكال الخبز والخمر هو اياه الاله الجالس على عرش السماء وعمانوئيل ” الله معنا”، الحاضر بقوة الروح القدس في كلمة الانجيل نوراً للعقول، وفي الاسرار نعمة تشفي وتقدس، وفي القلوب التي سكب فيها حبه
ألا تعلمان انه ينبغي لي ان اكون في ما هو لأبي؟ لو2/49
انه ابن مريم ويوسف لكنه في الاساس ابن الله المتجسد. ” ما هو لأبيه” ليس سوى الغاية من تجسده، التي عليه ان ينصرف في سبيلها. انها السبب الذي بدونه يفقد تجسد الكلمة مبرره. راحت الكنيسة بلاهوتييها تفسّر هذه الغاية السبب
أ- فقالت مع مدرسة القديس انسلموس: انها كرامة الله التي انتهكها الانسان بخطيئته تقتضي التعويض والتكفير من اجل مرضاة عدله، وتقتضي اعادة ترميم طبيعة الانسان المخلوقة على صورة الله وقد شوهتها الخطيئة، تحقيقاً لبّره. لكن الانسان غير قادر على التعويض والتكفير، بل غير قادر على محاربة من وما اغواه لانه عبد له ومديون. وحده الله، غير المديون لأحد يستطيع النصر على مستعبد الانسان، الشيطان وحيله واغراءاته، فكان لا بد من ان يتجسد، فيكون الانسان-الله، يسوع المسيح. فتحقق الفداء والتكفير والتعويض بآلامه وموته، والانتصار بقيامته. لقد جعل ذاته خطيئة من اجلنا، فكان الكاهن والذبيحة، وكاهن يفتدي، ذبيحة تكفر. هذه الحقيقة السامية اصبحت صلاة الكنيسة يتلوها الكاهن في القداس: ” ايها القربان الشهي، الذي قدمت نفسك لاجلنا! يا ذبيح الغفران الذي انت نفسك قربت نفسك لأبيك! ايها الحمل الذي كنت كاهن قربانك! لتكن صلاتنا، على نفح رضاك، ايها المسيح، بخوراً نقربه بك لابيك. لك المجد الى الابد”. والانسان لا يستطيع ان يتبرر بنفسه، فلا يبرره الا القدوس. الذي اتخذ الطبيعة البشرية منزهة من كل خطيئة، وضمّ اليها، في سرّ جسده السرّي طبيعة كل انسان، وراح بقوة روحه القدوس يقدسها ويؤلهها. هذا ما تعلنه الكنيسة في القداس
وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا، وموتنا بحياتك، أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك، لتحيينا وتخلصنا، لك المجد الى الأبد
ب- ورأت الكنيسة مع مدرسة اللاهوتي الفرنسيسكاني “دون سكوت” انه مجد الله، الذي لو لم يخطأ الانسان، لارسل ابنه الوحيد، ” ضياء مجده” (عبرا1 )، ليكون كمال الخلق وتاجه وعمل الله الاسمى. فالله بفعل حب اوجد الكون والانسان ليسكب في هذا الاخير حبه. ولكن، بسبب محدودية الانسان المخلوق، كان لا بدّ من ان يوجد انسان غير مخلوق، يكون جديراً بسمو محبة الله وكرامة الخالق، ويمثل كل انسان هو موضوع الحب الالهي. فكان لا بد من ان يتجسد الكلمة الالهي، ابن الله، ليكون هذا الانسان المولود بالروح القدس من مريم البتول وغير المخلوق، يسوع المسيح. هذا ما اعلنه الملائكة بنشيدهم ليلة الميلاد: ” المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام للناس الذين بهم مسرة الله”، اي حب الله (لو2/14). يفسّر القديس ايريناوس ان ” مجد الله الانسان الحي”، اي الانسان الذي يحب الله حباً سامياً، مثل يوسف ومريم وسواهما من القديسين والابرار الذين عاشوا ببطولة محبة الله. لكن مجد الله تحقق بامتياز في يسوع المسيح الذي يجمع في شخصه الالهي حب الله وحب الانسان
ج- من وحي يوحنا الرسول ” الله محبة… وهو أحبنا اولاً (1يو4/8،10،19) ادركت الكنيسة: انها محبة الله الذي شاء وجود شخص، غير اقانيم الثالوث القدوس، يحبه الله بنوع يليق به، شخص قادر على قبول مقياس حب الله الذي هو بدون قياس. فكان لا بدّ من ان يصبح الابن الالهي هذا الانسان، بتجسده من عذراء بقوة الروح القدس، الذي يحبه الله الآب بشكل أسمى وغير متناهٍ، لان يسوع انسان واله في آن. هذا الشخص هو ايضاً كل واحد منا، نحن الذين افتدانا المسيح بدمه، وجعلنا اعضاء في جسده، واصبحنا به ابناء لله، على ما يقول يوحنا الانجيلي: ” ان الذين قبلوه اعطاهم ان يصيروا ابناء الله” (يو1/12). تجسد ابن الله هو البرهان الاسمى عن حب الله للبشر (1تيطس3/4)، والدعوة الى محبة الله بشكل يليق به، والى التعبير عن محبتنا له بافعال حب للانسان الذي امامنا بضعفه وقوته، بفقره وغناه، بجماله وقباحته، قريباً كان ام غريباً. يوحنا، لاهوتي المحبة، ينبهنا: ” لا تكن محبتنا بالكلام او باللسان، بل بالعمل والحق” ي1يو3/17
هذه هي حضارة المحبة ومضمون ما قال الصبي يسوع لابيه وامه في الهيكل: ” ينبغي علي ان اكون في ما هو لابي”. العائلة بافرادها والكنيسة بابنائها وبناتها ومؤسساتها، مؤتمنون على حضارة المحبة ومدعوون الى ادخالها في ثقافات مجتمعاتهم
العائلة المقدسة
نزل يسوع معهما الى الناصرة، وكان يطيعهما…وينمو بالقامة والحكمة والنعمة امام الله والناس لو2/51-52
تحيي الكنيسة في هذا الاحد عيد العائلة المقدسة، عائلة الناصرة. فيها استعادت العائلة المسيحية قدسيتها وكرامتها، على انها ” كنيسة بيتية” مبنية على سرّ الزواج. الله حاضر فيها، بكلمته ونعمته، وهي جماعة ايمان ورجاء وحب. فيها تتحقق الشركة بين الاشخاص على صورة الثالوث الالهي، ويتم تقاسم الخيرات الروحية والمعنوية والمادية، ويعاش التفاني وبذل الذات والانسجام على مثال اتحاد المسيح بالكنيسة. انها المكان الاول للتربية على الصلاة، حيث ابناؤها، ابناء الله وبناته، يصلون معاً ككنيسة. وبوصفها ” كنيسة بيتية” فانها تشارك كنيسة المسيح حياتها ورسالتها، اذ اشركها المسيح، بمسحة السّر المقدس، في خدمته المثلثة: الخدمة النبوية بان تكون جماعة مؤمنة ومبشرة بالانجيل، والخدمة الكهنوتية بأن تكون جماعة مصلية وفي حوار دائم مع الله، والخدمة الملوكية بان تكون جماعة المحبة والعدالة والانتصار على الشر، وفي خدمة الانسان راجع الارشاد الرسولي: في وظائف العائلة المسيحية 21،49- 64
في عائلة الناصرة، المتمتعة بامتياز بصفة ” كنيسة بيتية”، نما يسوع في الشركة بالطاعة لوالديه، محققاً الوصية الالهية: ” اكرم اباك وامك” ( خروج20/12)، ونما بفضل تربيتهما لشخصيته بابعادها الثلاثة: القامة من خلال عنايتهما المادية، والحكمة بتربيته على القيم الخلقية والثقافية والانسانية، والنعمة بالسهر على اتحاده العميق بالآب والروح القدس، وبازكاء حياة الايمان لديه. في هذه الحياة العائلية المقدسة والمسؤولة هيأ يسوع رسالة الفداء. وكشف ان الوالدين هم المربون الاولون لاولادهم، حسب قناعاتهم الدينية والخلقية وتقاليدهم الثقافية، على ما علّمت الكنيسة ايضاً ( راجع الرسالة الى العائلات،16). وتضيف ان مهمة الوالدين في تربية اولادهم ليعيشوا في الحقيقة والمحبة هي واجب جوهري لعلاقته بنقل الحياة البشرية اليهم، واساسي بالنسبة الى مهمة الآخرين التربوية، واولي بداعي رباط الحب الفريد بين الوالدين واولادهم، ولا بديل او غنى عنه اذ لا يجوز ان يفوّض الى غيرهم بشكل مطلق او ان ينتزعه منهم احد، راجع في وظائف العائلة المسيحية، 36
العائلة هي حقاً ” المدرسة الاولى للحياة المسيحية، وللاتسنة الغنية” ( الكنيسة في عالم اليوم، 52)، حيث نتعلم فرح العمل وتعبه والمحبة الأخوية والمغفرة السخية والمتجددة، وبخاصة العبادة الالهية في الصلاة وهبة الذات التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1657