إننا نرى في هذا الإنجيل أنّ المسيح يخبر السامريّة عن “الحياة الأبديّة” كما فعل مع نقوديموس، وكما أصبح المسيح المخلص على الصليب بدل الحيّة النحاسية، هنا هو يعطي الماء الحيّ، بدل ماء بئر يعقوب. ونرى أيضاً أن المسيح يحثّنا على العبادة “بالروح والحق” وليست العبادة مرتبطة بمكان معيّن.
نرى المسيح الذي يمنح الحياة والخلاص لأكثر المبعدين، للذين هم مكروهون من اليهود، وهم من قد اختلط بالوثن، فاعتبروا أنجاساً، وأيضاً إلى إمرأة، وهي ذات سمعة سيّئة.
كان لابد أن يجتاز السامرة، لأنه لا يمكن العبور من أورشليم (اليهودية) إلى الجليل دون العبور على السامرة. هذه الرحلة تحتاج إلى ثلاثة أيام سفر.
كإنسان حقيقي خضع يسوع للضعف الجسدي فتعب. في تواضع كان يمارس رحلاته مشيًا على قدميه، ولم يكن لديه دابة يمتطيها. كضعيفٍ أنعش الضعفاء، كما تفعل الدجاجة بفراخها. إذ شبه نفسه بالدجاجة، يقول لأورشليم: “كم مرة أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت 23/ 37). فالمسيح تعب لكي يخلّصنا وهو يفعل كلّ شيء ليخلصنا، حتى إنّه يجلس على الأرض وهو تعب وبإمكانه أن يخلّص اهل السامرة بأكملها.
وها هي تخرج عند الظهيرة، لأنّها لا تريد أن تلاقي أحد بسبب موقعها الإجتماعي السيئ. فيمكننا الهرب من الناس ولكن لا يمكننا الهرب من الله، فهو ينتظرنا في كل آن كي يخلّصنا. فهو كما اعتمد ليدلنا إلى العماد، هكذا يدلنا على الماء الحيّ. ويعلّمنا المسيح أن نستغلّ كل ظرف نراه مناسباً ونرى أحداً بحاجة إلى سماع كلمة الله، أن نعطيه إياها، فلا نتكاسل أيّاً كانت الظروف، فنرى أن المسيح وهو بتعب يعطي الخلاص، فأي عذر قد نعطي! وهذه المياه هي الروح القدس كما يقول يوحنا على لسان المسيح : “إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ إِليَّ. وَالـمُؤْمِنُ بِي فَلْيَشْرَبْ، كَمَا قَالَ الكِتَاب: مِنْ جَوْفِهِ تَتَدَفَّقُ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيّ”. قَالَ هـذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الـمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوه. فَالرُّوحُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ أُعْطِيَ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ مُجِّد”(يوحنا 7/37-39).
فدهشت هذه الإمرأة من طلب المسيح، لأنّ اليهود لا يطلبون منهم شيء، فهو يكون قد تنجّس. وفي جوابه أنّه يعطي الماء الحيّ، يَظهر لنا أننا نحن العطاش وليس هو، فهو عطشان إلى خلاصنا، ونحن عطاش إليه، ليعطينا الماء الحيّ. فهذه المياه على عكس هذا البئر الذي تتكدّس فيه المياه، بل هي كالنبع الذي لا يجفّ، ومياهه تفيض بلا توقف. وهذه المياه ترمز إلى الروح القدس، الذي لا ينقطع يعطي الحياة لطالبيها. وهي كنيقوديموس، تتكلم وهي على حافة الإيمان، قال نيقوديموس للمسيح “يا معلم” ولكنه لم يؤمن به مباشرة، وهي تقول له “يا سيد” وتكمل السوأل عن كيفية حصوله على الماء، أم هل سيعطيهم بئراً افضل من بئر يعقوب؟ ولكن المسيح كان يتكلّم عن مياه الحياة الأبدية، التي ليست فقط تروي إلى الأبد، بل هي تفجّر في الشخص نبع مياه :” بَلِ الـمَاءُ الَّذي أُعْطِيهِ إِيَّاهُ يَصِيرُ فيهِ نَبْعَ مَاءٍ يَتَفَجَّرُ حَيَاةً أَبَدِيَّة”. كما يقول مار بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتوس :”فإِذَا كُنْتُ أُبَشِّرُ فلا فَخْرَ لي، لأَنَّ ذلِكَ ضَرُورَةٌ مَفْرُوضَةٌ عَلَيَّ، والوَيْلُ لي إِنْ لَمْ أُبَشِّرْ(1قور9/16). ولننظر بعد تعلقها ببئر يعقوب، قد عرض عليها المسيح الماء الحيّ، فها هي تفضله على آبائها إذ تقول : “يَا سَيِّد، أَعْطِنِي هـذَا الـمَاء، حَتَّى لا أَعْطَش، ولا أَعُودَ إِلى هُنَا لأَسْتَقِي”.
وهنا بدأ المسيح بعد أن وضعها على سكّة الإيمان، يكشف لها أخطاءها، وأيضاً بطريقة شفافة لا تؤذي صاحبها. وها هي تقول عنه أنّه نبيّ، وبدأت تسأله عن كيفيّة العبادة. وجواب المسيح أنّ العبادة بالروح والحقّ، فليس من مكان أقدس من ذات الإنسان كي يقيم الله فيها(راجع : 1قور 3/16-17). والله ليس من هذه الأرض، ونحن اصبحنا أبنائه، وهو قال لنا أننا لسنا من هذا العالم (يوحنا 15/19)، فكيف تكون عبادتنا مرتبطة إلى هذه الدرجة بمكان محدد! فالجبل هو المكان العالي، القريب من السماء، وفيه يبتعد الإنسان عن مشاغل العالم ليقترب إلى الله، وها هو أصبح بداخلنا. وقوله أنّ “الخلاص هو من اليهود” هو دلالة إلى العبادة الحقّة، فالسامريون إعتقدوا بأن الله يحده مكان معين ويتحيز لهم، لهذا يسجدون له. ظنوا أنه يوجد إله محدود، فعلى هذا استرضوه وعبدوه، ولهذا السبب لبثوا يسترضون الأصنام، ويسترضون إله المسكونة، أما اليهود فكانوا بعيدين عن هذا الظن، فقد عرفوا الله أنه إله المسكونة كلها، وإن كان هذا الرأي لم يكن رأيهم كلهم، فلهذا السبب قال المسيح: ” أَنْتُم تَسْجُدُونَ لِمَا لا تَعْلَمُون، ونَحْنُ نَسْجُدُ لِمَا نَعْلَم”. وايضاً السامريون لا يعترفون بكلّ الأنبياء، فكلام الله كان يُعطى لهؤلاء الأنبياء وهمّ من عرّفوا إسرائيل أكثر فاكثر على الله، وهم من تنبأوا عن مجيء المخلّص، لهذا السبب أصبح السامريون لا يعرفون الله حقّاً.
والعبادة بالروح هي حيث يطلب الإنسان مجد الله وليس مجده الخاص، ولا الهياكل التي صنع. والتطهير ليس بتقديم ذبائح خارجيّة، بل بتقديم قلبنا خالصاً للربّ. وما قوله “الله روح” إلاَّ تأكيداً، أن الله لا يحدّه شيء ولا أجمل هياكل العالم. فكانت الذبائح التي تقدمّ في الهيكل هي أيضاً للشكر، ونحن أصبحت ذبيحتنا القداس، ونحن بإسم يسوع المسيح نرفع شكرنا لله الآب. والعبادة بالروح، هي أيضاً ضدّ اليهود المتمسكين بالحرف. والعبادة بالحق ضدّ السامريين. وأيضاً، العبادة بالروح في حياتنا نحن، هي عكس العبادة بالجسد، أي الحضور في الصلوات والقدّاسات دون أي تغيير في حياتنا، فإن كنّا نصلّي ونحن مهتمّون فقط بالإنشاد دون الصلاة من الداخل فصلاتي باطلة، بل عليها أن ينبع من داخلي. وهكذا يكون السجود حقّاً لله، أو نكون ساجدين لأمور أخرى غير الله. وهكذا نتصل بالله من خلال الروح، ويسكن الروح القدس فينا، ونصبح نبع ماء حيّ، فيُقال عنّا أنّ فينا روح الله.
بالحقيقة لم يعطِ المسيح إجابة واضحة لليهود الذين كانوا يقولون باستمرار: “إلى متى تعلق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًا” (يو 10/ 24)، أما لها فأخبرها بوضوح: “أنا هو”، لأنّها قد آمنت حقّاً، وليس مثل هؤلاء الذين يسألون لمجرّد الحشرية، أو لإتّهامه