أخوتي في هذا العيد المجيد، نحتفلُ معًا بعيدٍ ملؤُهُ الحبّ، عيدَ الخلاصِ الذي حقَّقَه وتمَّمَه لنا اللهُ الآبُ المحبّ. عيدُ ميلادِ الربِّ يسوع الذي يحملُ بذاتِه وبقلبِه سرَّ براءةِ الأزل، سرَّ حبِّه المترجم ألله معنا
إنّ عيدَ ميلادِ الربِّ يسوع، هو وعدُ اللهِ الأمين، الصادقِ، الثابتِ والمحبِّ لنا، والذي به أصبح بإمكاننا أن نعيشَ بحياتِه المتجسّدة بأعماقنا
هو فعلُ تجسّدٍ ينبعُ من ذاتِ قلبِ الله، ويُدفقُ في قلبِ كلِّ واحدٍ منّا الحامل فيه صورتَه ومثالَه، صورةَ حبِّه اللاّمحدود، الذي يدعونا دومًا إلى الشركةِ الحقيقيّةِ في كمالِ حياته. هو فيضُ حبِّ الله لإنسانٍ أمعنَ في رفضِه لهذا الحبِّ العظيمِ على مرِّ التاريخ. غير أنّ الله، وهو الحبُّ اللاّمتناهي، أرسلَ إلينا ابنَه الوحيد ليُدخلنا في عمقِ حياتِه الإلهيّة
إنّ الربَ يسوع في هذا العيد، ينادي كلَّ واحدٍ منّا فردًا فردًا، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، حتّى نرجعَ إلى ذواتِنا ونفحصَ ضميرَنا بعمقٍ، لكي نغوص إلى عمقِ حياتِه التي أصبحت بالتجسّدِ في عمقِ حياتنا
يسوعُ يريدُ أن نحبَّه كما أحبّنا ونثق به، وأن نسمحَ له أن يدخلَ إلى أعماقِ قلوبِنا، ونتجاوب مع دعوةِ حبِّه لنا بحبٍّ متجسّدٍ مُعاش. فما هو جوابنا إذًا عن الدعوةِ للحبّ؟ هل هو الرفضُ، اللاّمبالاةُ أم العيش بالخطيئةِ والأنانيّةِ، والمخالفاتِ والشهواتِ، والحقدِ، والبغضِ والانقساماتِ، والتشرزم؟ كلُّ هذه الأمور نتيجتُها الدمار والفراغ الداخلي وعدم السلام الحقيقي، فَنصلُ أخيرًا إلى هلاكِ نفوسنا
إنّ عالمَنا اليوم، أصبح عالمَ المادةِ والضجيجِ وموتِ الضميرِ والقيمِ، عالمًا لا يعرفُ ما هو السلامُ الداخليُّ الحقيقيّ. ألربُّ يسوع هو وحدُه القادر أن يزرعَ دروبَ حياتِنا فرحًا وسلامًا وأمانًا، بالرغم من كلِّ الصعوباتِ والمعاكساتِ وخيباتِ الأمل التي قد يواجهُها كلُّ واحدٍ منّا. هو الفرحُ الداخليُّ الحقيقيُّ الثابتُ النابعُ من قلبِه، وهذا الفرحُ السماويُّ تحقَّقَ فينا بقوّةِ تجسّدِه، فأصبحتِ السماءُ كلُّها قريبةً منّا جدًّا لا بل في أعماقِ قلوبِنا؟ فهل لحياتِنا معنًى بدونِ هذا الإلهِ المتأنّسِ الذي أحبّّنا كلَّ الحبِّ؟
فيا إخوتي، حبّذا لو استقبلنا عيدَ ميلادِ الربِّ يسوع هذه السنة بإيمانٍ عميقٍ ومحبّةٍ صادقةٍ، بخطوةٍ إلى الداخل، صادرة من القلب. فيا ليتنا نتعمّق مسيحيًّا أكثر في هذا العيدِ العظيم، بغَوصِنا إلى عمقِ الحياةِ والقداسةِ، ولا نتوقّّف فقط عند الزينةِ والزياراتِ والواجباتِ وبالأخصِّ الانشغالات والانشغالات
في هذا الصددِ يقولُ البابا….: “إنّ البشريةَ مشغولةٌ كثيرًا بذاتها، وتحتاجُ لكلِّ الوقتِ ولكلِّ المكانِ بطريقةٍ متطلّبةٍ من أجل شؤونها ولذا لا يبقى أيُّ شيءٍ إلاّّ لذاتها، وليس لها المكان لتستقبل الله”. يتابعُ ويقول: “هل لديّ الوقتُ أو المكانُ لله؟ هل
يستطيعُ الدخولَ إلى حياتِنا، بأعمالنا؟ هل لديّ الوقتُ للقريبِ الذي يحتاجُ إلى كلمةٍ حلوةٍ، إلى غفرانٍ، إلى مساعدةٍ، إلى أن أزرعَ الفرحَ في قلبِه بطريقةٍ ما
إنطلاقًا من كلمةِ البابا، نحن نحتفلُ اليومَ بعيدِ الميلاد. فهل سيمُرُّ هذا العيد ويبقى على صعيد الذاكرة فقط، ولم نتغيّرْ من الداخلِ ولو بخطوةٍ تعبّرُ عن محبّتِنا للربِّ؟. وننسى نوعًا ما مَن هو صاحبُ العيدِ أي يسوع الرب؟ وليس فقط الهدايا …. فصاحبُ العيدِ هو يسوعُ الطفلُ القدوس النقيّ المحبّ. فمِنَ المهمّ جدًّا نحن المسيحيون، نحن الّذين ننتمي إليه، أن نسعى إلى البراءةِ والنقاوةِ وصفاءِ القلب مدى الحياة، وأن نقتربَ من الربِّ الصالحِ الذي يشعُّ من قلبِه الوداعةُ والمحبّةُ العميقةُ والسلامُ. إنه “أصفى من قلب الأطفال”. هذا القلبُ الذي يُدفقُ الحياةَ، يريدُ أن يملأ قلوبَنا من ذاتِه ويضمَّنا إليه بحبٍّ كبير. فلنقتربْ منه، ولنُسرعْ إليه
ألمطلوبُ منّا أيضًا أن ننحنيَ على مثالِ العذراء مريم ومار يوسف ومار شربل أمامَ عظمة حبِّ اللهِ المتجسّدة، ننحني أمامَ عظمتِه التي تحوي كلَّ القداسة. وأيضًا، مثلما انحنى علينا بفعلِ تواضعٍ عجيب وقبِلَنا كما نحن ولا يرى فينا إلاّ حبّه وغفرانه، كذلك الأمر يجب علينا أن ننحنيَ لبعضنا ونقبلَ ضعفَ بعضِنا ونسامحَ هفوات بعضِنا البعض
وأخيرًا، إنّه الحبُّ الساكنُ بأعماقِ قلوبِنا بحبٍّ عجيب، ومن داخلنا يفيضُ بالحياةِ الأبدية. إنّه سلامُنا وفرحُنا وغايتُنا وخلاصُنا، إنّه ميلادُ الربِّ يسوع على أرضِنا، وبعمقِ ذواتِنا، فلنشكرْه ولنعتصمْ به، آمين
ميلاد مجيد