افتتح القديس متّى إنجيله بنسب يسوع للإعلان أنّه هو المسيح المنتظر، الّذي يحقّق وعد الخلاص، وفقاً لنبوءات العهد القديم. ولهذا قال:”كتاب تكوين يسوع المسيح ابن داود (المسيح المنتظر)، ابن ابراهيم” (محقّق وعد الخلاص). وأراد أن يكشف أنّ هذا ابن الله هو أيضاً إنسان بطبيعته البشريّة، بل هو موسى الجديد والمعلّم الأوحد للشريعة. أنّه عمّانوئيل، “إلهنا معنا”، الّذي “يبقى معنا طول الأيام إلى انتهاء العالم”. يتمثّل متّى الإنجيليّ بوجه الإنسان، كما ظهر ليوحنّا في رؤياه، فيما يتمثّل وجه مرقس بالأسد لأنّه يبدأ إنجيله بنداء يوحنّا المعمدان: “صوت صارخ: في البريّة: أعدّوا طريق الرّبّ”، ولوقا بالعجل لأنّه يبدأ انجيله “بميلاد يسوع في مذود، ويوحنّا بالنسر الطائر لأنّه حلّق في سماء الكلمة:” في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله
نجد في الإنجيل نسبين ليسوع: الأوّل انحداريّ من ابراهيم إلى يوسف رجل مريم الّتي منها ولد يسوع الّذي يدعى المسيح، والثّاني تصاعديّ من يوسف إلى آدم الذّي هو من الله. متّى قصد التّأكيد أنّ يسوع هو المسيح المنتظر من سلالة داود، ومحقّق مواعيد الله الخلاصيّة لابراهيم، كما أعلن الآباء والأنبياء، منذ القديم، واختصرها بولس الرّسول بالقول:” من بولس، عبد المسيح يسوع، الّذي دعي ليكون رسولاً لإنجيل الله الذذي وعد به من قبل، بأنبيائه في الكتب المقدّسة، في شأن ابنه الّذي ولد بحسب الجسد من نسل داود، وجعل بحسب روح القداسة ابن الله بقوّة، إي بالقيامة من بين الأموات، وهو يسوع المسيح ربّنا
أما لوقا، الّذي يكمّل رؤية متّى، فيبيّن أنّ يسوع هو آدم الجديد، وأبو كلّ البشريّة المفتداة، ومخلّص جميع البشر، من أي عرق ودين ولون. ويتفرّد لوقا بالحديث عن تسجيل يسوع مع أبيه وأمّه، في الإحصاء الذذي اضطرّ يوسف ومريم الحبلى بيسوع على السّفر من الناصرة إلى مدينة داود للإكتتاب. وفي هذه الأثناء ولد الطفل في بيت لحم وسجّل في أسرة يوسف ومريم: “يسوع بن يوسف الّذي من الناصرة”. هذا يعلن بوضوح انتماء يسوع إلى الجنس البشريّ. بين الناس، من سكّان هذا العالم، خاضعاً للشريعة وللمؤسّسات المدنيّة، ولكن مخلّصاً للعالم أيضاً. “وهذا الّذي اكتتب في الإحصاء المسكونيّ مع البشريّة جمعاء، إنّما أراد أن يُحصي الناس أجمعين معه في سفر الأحياء، ويسجّل في السماوات مع القدّيسين كلّ الّذين يؤمنون به، له المجد والقدرة إلى الدهور، آمين
إنّ نسب يسوع مشاركة وتضامن مع البشريّة بأسرها
أ- مشاركة في البركات والوعود الإلهيّة الّتي تحقّقت في يسوع المسيح “ابن داود وابراهيم وآدم”، ما جعل كلّ مولود من سلالة البشر “يرث” هذه البركة والوعود الإلهيّة الممنوحة للأجداد
ب- تضامن حرّ مع كلّ إنسان:” شاركنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة”. يتضامن الرّبّ يسوع في الواقع الإنسانيّ لكي يرفع كلّ إنسان إلى البنوّة لله. سيقول القديس امبروسيوس: “تأنّس الله، ليؤلّه الإنسان”. وهكذا يجعل أولئك المنتمين إلى جيل آدم أبي البشريّة، وابراهيم أبي المؤمنين، جيلاً مختاراً، جيل المولودين من الله، بالولادة الثانية من الماء والروح
أمّا مجموعة الأجيال الثلاثة فترمز إلى مسيرة شعب الله نحو المسيح، الّذي هو محور البشريّة والتاريخ. المجموعة الأولى من ابراهيم إلى داود هي مسيرة الإيمان من ابراهيم حتّى تنظيم الملوكيّة مع داود؛ المجموعة الثانية من داود إلى سبيي بابل رمز الخطيئة فالتهجير مع بيتشابع زوجة أوريّا، الّتي بعد أن ضاجعها داود وحبلت منه قتل زوجها، فوبّخ الرّبّ داود على خطيئته بلسان ناتان؛ المجموعة الثالثة من سبي بابل إلى المسيح رمز وعد الله الّذي ما زال قائماً، لأنّ الله صادق في الوعد وأمانته إلى الأبد، حتّى تحقّق الوعد في المسيح
سرّ الإنسان
في رسالته إلى العائلات، يتحدّث البابا يوحنّا بولس الثاني عن “نسب الشّخص البشري”، فيؤكّد “أنّ نسب الشّخص مكتوب في بيولوجيّة النسل”. علّق على هذا القول الكردينال أنجلو سكولا، عندما كان رئيساً لجامعة اللاتران الحبريّة، في مناسبة المؤتمر الدوليّ ولقاء البابا مع العائلات في روما، بالمداخلة الّتي ألقاها بعنوان:”نسب شخص الابن”. وذلك عبر خمس مراحل، يتبيّن من خلالها سرّ الإنسان والعائلة
الولد، في الأصل، ثمرة العطاء الّذي يتبادل به الرجل والمرأة ذاتيهما بالحبّ والشركة الزوجيّة. فنعتمد لفظة زفاف لأنّها تفترض اختلاف الجنس: ذكر وأنثى- رجل وامرأة، يرتبطان بعهد الحبّ الزوجيّ المعبّر عنه بتبادل الذات كاملة روحاً وجسداً. هذا الحبّ ينبع من شركة الثالوث الإلهيّ القدّوس
لكنّ المولود من هبة ذات الوالدين هي هبة من الله. لفظة “إنجاب” في اللاتينيّة تعني تواصل الخلق. ولفظة المنجب تعني المشارك مع الّذي يجري في الأساس عمليّة الخلق، هو الله. وهكذا يكون الوالدان “شاهدين”، من خلال الإنجاب، للخالق وللخلق. في الواقع، لفظة إنجاب في اللغة الألمانيّة من أصل لفظة “شهادة”. وسيشهد بولس الرسول باسم كلّ الوالدين بالقول: “إنّي أجثوا على ركبتيّ لأبي ربّنا يسوع المسيح، الّذي منه كلّ أبوّة في السماء والأرض تأخذ اسماً”. “إنّ الله حاضر في كلّ أبوّة وأمومة، لأنّه هو الّذي يعطي كلّ مولود “صورته” و”شبهه” الخاصّين بالكائن البشريّ وحده. “فالإنجاب هو تواصل الخلق
هذا المولود من والدين بشريين حاملاً صورة الله، هو شخص بشريّ جديد، ليس مجرّد فرد مستنسخ من نوعه، كما يجري في سائر مخلوقات الأرض من حيوان ونبات، بل “هو إنسان جديد يحمل معه إلى العالم صورة الله نفسه وشبهاً خاصاًّ بالله”. هذا يعني أنّ في فعل الحبّ الزوجي يتمّ اللقاء بين الأبديّ والزمن، بين الله الّذي ينفخ روحاً من روحه والزوجين اللذين يتبادلان هبة الذات كاملة، وكأنّ الحبّ الزوجيّ هو “الهيكل حيث يحتفل الله بسرّ الحبّ الّذي يخلق”. ليس الوالدون أسياد الحياة وأسياد أولادهم، بل الله وحده “سيّد الحياة”. وقبل أن يكونوا والدين كانوا مولودين. ولهذا لا يحقّ لهم اللجوء إلى وسائل منع الحمل الإصطناعيّة، ولا إلى الإجهاض، الّذي هو جريمة قتل مثل سائر الحبوب الإجهاضيّة، والحلّ من هذه الخطيئة الجسيمة محفوظ لمطران الأبرشيّة؛ ولا إلى استنساخ الأجنّة. هذا المنع إنّما هو لحماية الحياة وكرامة الأبوّة والأمومة
إنّ الولد المولود حاملاً صورة الله، هو حدث حريّة، بمعنى “أنّ الله يريده لذاته”، فيدعوه إلى تحقيق ذاته بكاملها. وإذ يخلقه يزيّنه بالحريّة ليبلغ إلى الإتحاد به. تتميّز الأبوّة والأمومة بحرّيّة مثلّثة: الرغبة الّتي تعطي بداية وجود للولد، والتربية الّتي تساعد على أن يحسن خياراته في الحياة، والتوجيه الّذي يبلغ بالولد إلى مصيره الأخير، اللقاء بالله من خلال السهر والمثال الحيّ
وأخيراً الشخص المولود يتخطّى والديه، لأنّ ولادته مرتبطة بإرادة الله، من دون إهمال المعطى البيولوجيّ للانطلاقه، الكامن في الفعل الزوجيّ. وبهذه الصفة يسهم في بناء حضارة جديدة، هي حضارة المحبّة والحريّة والأخوّة الشاملة. هذه القرابة الروحيّة والثقافيّة الّتي تتخطّى قرابة اللحم والدم هي شركة الأشخاص