[singlepic id=427 w=450 h=657 float=center]
في قرية ” روكابورينا” الصغيرة التابعة لمدينة كاشيا ولدت ريتا سنة 1381 وسميت الطفلـة في العمـاد ” مـاركـريـتـا ” وسماهـا الأقـارب اختصارا ” ريتـا ” تحبّبـا . وكانـت وحيدة لوالديهـا اللذيـن بذلا قصـارى جهدهمـا فـي توفيـر تربيـة مسيحيـة أصيلـة لهـا . إلا أن المحيـط الذي عاشت فيـه ريتـا الصغيـرة كان مشحونـاً بالأحقـاد والخصومات التـي تؤدي غالبـاً إلى الأنتقـام والقتـل .
وما أن بلغـت الفتـاة الثانيـة عشــر من سنهـا ، حتـى خطبهـا شـاب اسمه باولـو مانشينـو ، وهو من أبنـاء القريـة ويعمـل لحساب أحد الأقطاعيين . وكان باولـو حاد الطبع شرس الأخلاق ، علـى النقيض من ريتـا الوديعـة المتدينـة . لكـن الزواج لم يتم إلا سنة 1387 ، لإنهماك باولـو في الصراعات الدائـرة في المنطقـة .
وتوفي والد ريتـا بعـد مدة قصيرة من زواجها ، وتبعتـه والدتهـا الى اللحد ، ممـا سبـب حزنـاً عميقـاً في نفس ريتـا . وكانت سنوات الزواج الأولى صعبة لريتـا ، بالنظر إلى طبـع زوجهـا وميوله إلى العنف والشراسـة . ولكنها حاولت أن تتكيف مع وضعهـا الجـديـد ، وأن تفهم وتتحمل مسؤليات حالتهـا الزوجية . فأخذت ترفع الصلوات الحارة على نية زوجهـا وتتفانـى في خدمته واكتسـاب رضـاه وثقتـه ، وتبذل جهدهـا في استئصال البغض من قلبه وتوجيه مشاعره نحو الخير والسلام
وأنجبت ريتا ولدين توأمين ، سمي أحدهما جان جاكومو ، والآخر باولو ماريــا . وعكفت الأم الشابة على تربية ولديها وتوجيههما إلى الخير والمحبة منذ صغرهما. وكان لميلادهما تأثيـر إيجابي في نفس الوالد الذي هدأ قليلاً في تصرفاته ، ولم يعـد يحمل السلاح
إلا أن زوج ريتـا اغتيل في أحد الليالي ، بينما كان عائداً من كاشيا إلى قريتـه . وقبـل وفاته سمعوهُ يتلفظ بكلمات الغفران لقاتليه ، وانكبت ريتـا المنكوبـة علـى جثمانه وقالـت : ” أغفر له يا رب ، خلـّص نفسـه ، أغفـر له كما أغفر لقاتليه ” . وكان ذلك سنـة 1404 ، وكان عمـر ريتـا اذ ذاك 34 عامـاً . وعكفت على الإهتمام بولديها ، وكانت علـى علـم بما يدور في خاطرهما من عواطف الثأر لوالدهمـا . فأخذت تصلي وتطلب من اللـه أن يمنـع وقـوع هذه الجـريمة . وحاولت تهدئة الولديـن وحملهمـا علـى الغفـران لقاتلـي والدهمـا . وإذ لم تجد محاولاتهـا نفعـاً ، عمدت إلى اسلـوب بطولـي : التمست من اللـه أن يأخذهمـا قبل أن يرتكبـا الجريمة التي ينويان اقترافهـا . واستجاب اللـه إلى تضـرع هذه الوالدة القديسة ، فتوفي الولدان ، الواحد تلو الآخر ، خلال سنة 1405 !
وجدت ريتا نفسهـا أمام فراغ هائل . ولكنها لم تيأس . بل ، امتثالاً للمشورة الأنجيلية ، باعت كل ما كانت تملكه ووزعت كل شيء على الفقراء والمحتاجين وعلى المشاريع الخيرية ، وقررت الدخول إلى دير مريم المجدلية للراهبات الأوغسطينيات في منطقة كاشيـا . إلا أن راهبات الدير رفضنهـا . واعادت ريتـا الكـرة مرات عديـدة ، ولكنهـا لم تتلـق سوى الرفـض القـاطع لكونهـا أرملة وزوجة قتيـل ! لكـن اللـه القديـر دبّر لهـا أمر دخولهـا إلـى الدير بصورة خارقة ، إذ نقلهـا إلى الدير ليلاً ، ووجدتها الراهبـات صباحاً في قاعة الدير بطريقة مدهشة . فلم يستطع الراهبات إلا الرضوخ لإرادة الله ، وقبلن ريتـا في الديـر سنـة 1406 .
تحققـت امنية ريتـا ، فما أسعدهـا ! وبعـد سـنة الأبتداء ، أبرزت نذورها الرهبانيـة . وعليها من الآن ، أكثر من ذي قبل ، أن تنشـر المحبة حولهـا ، وأن تكون رسولة للسلام . والكرمة الموجودة حتـى الآن في فناء الدير تشهد لطاعة ريتا التـي ، نزولاً عنـد أمر رئيستهـا ، زرعت غصـن كرمة يابسـاً وسقتـه طوال سنـة كاملة ، وإذا بالغصن اليابس يليـن ، وتنبـت في أطرافـه براعم خضراء ، ويصبح كرمة باسقـة الأغصان ما تـزال حتـى اليوم تعطـي الدير ظلهـا وعناقيدهـا اللذيـذة
وفي جمعة الآلام سنة 1432 ، تأثرت ريتـا كثيـراً بكلمـت الراهـب الخطيـب الذي تحدث عن آلآم المسيح . وفي طريق العودة من كنيـسة الخورنية ، أخذت تراجع حياتها فـي جميع مراحلها . وعنـد وصولهـا الديـر ، دخلت صومعتهـا وعكفت على صلاة مضطرمة أمام الصليب ، وتأمل عميق وإنخِطاف روحي . وإذا بها تشعر بأن اكليل الشوك الذي كلل به رأس يسـوع قد وضع على رأسهـا ، فأهتز له جسمهـا ، وشحـب لونهـا وتدلـى رأسهـا علـى صدرها في شبه غيبوبة أليمة . وأصيب جبينها بجروح نتيجة إنغـراس شوكة من الأكليل فيـه . واستمر هذا الجرح ينزف مدة خمسة عشـرة سنة ، وكان علامة علـى اشتراك ريتـا في آلام الفادي اشتراكـاً مسـتمراً ، ولم يختف مؤقتـاً إلا خلال زيارتهـا لروما . وكان هذا الجرح يسبب لهـا آلاماً شديدة وحرجاً كبيراً أمام أخواتهـا الراهبات . ثم جاء مرض آخر سنة 1443 ، وأرغمها على ملازمة الفراش في صومعتها طوال أربع أعوام
وفي شهر كانون الثاني سنة 1447 ، تذكرت ريتـا قريتهـا ومنزلهـا وحديقتهـا ، وتمنت أن يؤتي لهـا بوردة من تلك الحديقـة من ثمرة التين ، وطلبت ذلك من المرأة التي ترافقهـا . ويا لدهشة هذه المرأة حينما لاحظت صباح اليوم التالي ان امنية ريتـا تحققـت فعـلاً ، فحملت إليها الوردة والتينتين .
وفي فجر 22 ايار 1457 ، لفظت ريتـا أنفاسهـا الأخيـرة وهي في السابعـة و السبعيـن من سنهـا . ويقال أن نواقيس الدير شرعت تقرع بشدة تلقائياً عند وفاتهـا . وتجاوبت معهـا نواقيـس كنائـس كاشيـا كلهـا. وبعد موتها كثرت الأعاجيـب التـي جرت بشفاعتهـا ، وشعَ جبينهـا جمالاً ، وفاضَت منها رائحـة زكيـة . ودُفِنَ جُثمانهـا في ديرهـا . وسرعان ما أصبح محجـة تقصدهـا جموع غفيـرة من الناس . وحينمـا بوشـر بدعوى تطويبهـا ، وفتـح قبرهـا ، عايـن الحاضرون أن جثمانهـا قد بقـى سالمـاً وهو مايزال هكـذا حتى الآن . ومرت سنـوات طويلـة علـى وفـاة ريتـا ، وفي سنـة 1628 ، أعلنت ريتـا طوباوية ، وفي سنـة 1900 ، أعلنهـا البابا لاون الثالث عشـر قديسـة.
هكـذا أعطـت القديسة ريتـا مثـالاً رائعاً لكل راهبة ، ولكـل شابة وأمرأة مسيحية بسخائهـا وإيمانهـا وتقواهـا … وهي اليـوم تدعو الجميــع الى الأقتـداء بهـا كمـا اقتدت هي بالمسيـح . فعسانـا نتعلـم منهـا أن درب القداسة ، يمر من خلال الحقائـق اليومية ، ومن خلال خدمة اخوتنا البشر