بعد ما بدأ القديس يوحنا إنجيله بحدث الميلاد ثم العماد، فهو الأن يخبرنا عن الميلاد من المعموديّة، وبعد ما قال يوحنا أنّ المسيح سيعمّد بالروح القدس والنار، فهوذا المسيح يضع شرطاً لدخول ملكوت الله، وهو أن يولد الإنسان من الماء والروح. ويعيش المؤمن مع المسيح لكي تكون له حياة أبدية، وهذا حصل برفع المسيح على الصليب. المعمودية هي ميلاد روحي يتم على الأرض لكي يبدأ المؤمن رحلته إلى السماء خلال اتحاده بالمسيح الذي صعد إلى السماء. فمن لا يقدر أن يقبل الميلاد الروحي كيف يمكنه أن يصعد بقلبه إلى السماء؟ إذاً حياة المسيحيّ عليها أن تكون على مثال حياة معلمه، الميلاد ثم العماد الى الصليب كي يحصل على الحياة الأبدية.
إن نيقوديموس قد جاء ليلاً، وهو من الفريسيين ورئيس لليهود وعضواً في مجمع السنهدرين، أعلى مجلس للأمة اليهودية، أجل اتى ليلاً ليقول لنا القديس يوحنا أنّ كل ما تعلّمه في اليهودية ووصوله إلى أعلى المراكز لم يصل به إلى الله وهو ما زال في الظلمة، وهذا واضح إذ إنّه لم يفهم المسيح إلى يوم أنزله عن الصليب (تطلّب الأمر ثلاثة سنوات كي يعود نيقوديموس ويؤمن حقاً). لا احد يذكر اسم نيقوديموس غير القديس يوحنا، الذي يذكره عند دفاعه عن المسيح بطريقة حذرة في يوحنا (7/ 50-51). وذكره عند دفن المسيح وهو الذي أتى في الليل :” وجَاءَ نِيقُودِيْمُوسُ أَيْضًا، وهُوَ الَّذي أَتى إِلى يَسُوعَ لَيْلاً مِنْ قَبْلُ، ومَعَهُ مَا يُنَاهِزُ ثَلاثِينَ لِيترًا مِنْ طُيُوبِ الـمُرِّ والعُود” (يو 19/39)، فيعلّق على انّه جبان، وهذا الليل هو كآبة الروح. فها هو يخرج من الليل ليسير في نور المسيح بينما الكثيرين بقوا نياماً. وأيضاً، كونه معلّم الشريعة يعلن بفمه عجز تلك الشريعة أن تكون هي المعلّمة الحقيقيّة، إذ يقول للمسيح “رابي” أي يا معلم، و” أَنَّكَ جِئْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا”، فالشريعة إذاً تلقى معنها من المسيح.
ونرى أن تصلّب نيقوديموس يرينا كيف انّ الفرّيسيين كانوا متمسكين بالشريعة فوق كلّ إعتبار، وهذا ما أعمى قلوبهم. وليس سهلاً على من يعتبرون نفسهم أهمّ معلمين اليهود، والذين يعتبرون أنّهم أعلى قداسة من غيرهم(راجع إنجيل الفريسيّ والعشّار: لوقا 18/ 9-14)، أن يأتي إلى المسيح قائلاً له يا معلم. وقدومه إلى المسيح لم يكن ليسمع منه أنّه يهدم الشريعة التي فهموها على طريقتهم، بل كان ينتظر من المسيح أن يكمّل الشريعة وأن المسيح هو ملك وليس بمصلوب.
ففي الفصل الثاني من إنجيله يضع القديس يوحنا آية عرس قانا، وطرد الباعة من الهيكل، ويقول “وبَيْنَمَا كَانَ يَسُوعُ في أُورَشَلِيم، في عِيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسْمِهِ كَثِيرُون، لأَنَّهُم رَأَوا الآيَاتِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا”(يوحنا 2/23). ولهذا يعترف به نيقوديموس أنّه من الله.
وما جاء نيقوديموس يطلب؟ فهذا النص لا يتكلّم إلاَّ عن الولادة الجديدة ومن يؤمن ينال الحياة الأبدية. وهنا ننال الشهادة عن المسيح من أكبر علماء اللاهوت، إذ عوض إلتجاء الشعب لهؤلاء العلماء للسؤال عن هذه المسائل، إذ باحدهم يسأل يسوع. وجواب يسوع، أنّه يجب الولادة من جديد- بالماء والروح. ويعود المسيح وينتهر عند غلاظة فكره : “أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وتَجْهَلُ هـذَا؟”، فعلى الإنسان أن يكون ليس فقط على صورة الله، بل على مثاله، أي يصبح الله في قلبنا. لكن كيف على نيقوديموس أن يولد من جديد، فهو إبن إبراهيم، وهذا بالنسبة لهم أهمّ ولادة، ولكن جواب المسيح كان أنّ عليهم أن يولدوا روحيّاً(المسيح) وليس جسديّاً(ابراهيم). وهذه الولادة يشرحها القديس بولس في رسالتة إلى أهل روما : “إِذًا فَنَحْنُ بِالـمَعْمُودِيَّةِ دُفِنَّا مَعَهُ في الـمَوْت، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الـمَسِيحُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ لِمَجْدِ الآب، كَذلِكَ نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا في الـحَيَاةِ الـجَديدَة. فإِذَا صِرْنَا وَإِيَّاهُ وَاحِدًا في مَوْتٍ يُشْبِهُ مَوْتَهُ، هـكَذَا نَكُونُ أَيْضًا في قِيَامَةٍ تُشْبِهُ قِيَامَتَهُ.ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ إِنْسَانَنَا العَتيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ، لِكَي يُبْطَلَ جَسَدُ الـخَطِيئَة، فَلا نَبْقَى مِنْ بَعْدُ عَبيدًا لِلخَطيئَة”(6/ 4-6).
وقول المسيح : ” مَولُودُ الـجَسَدِ جَسَد، ومَوْلُودُ الرُّوحِ رُوح”، هو أيضاً دلالة على أنّ الشريعة والفكر اليهوديّ رغم كل السنين التي اراد الله أن يعلّمهم حقيقته، ظلّ تفكيرهم بالأرضيات. وإن نريد أن نصبح أبناء الله، علينا النظر صوب الله، صوب السماء والتعالي عن الأرضيات، كما يقول لنا المسيح : ” لَسْتُم مِنَ العَالَم” (يوحنا 15/19). وتوبيخ المسيح له لأنّه لم يفهم جيّداً الكتب ففي آيات عديدة يقول الرب أنّه سيعطي اليهود قلوب ليست من حجر مثل : ” وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحم” (حزقيال 11/ 19).
” وكَمَا رَفَعَ مُوسَى الـحَيَّةَ في البَرِّيَّة، كَذلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَان، لِكَي تَكُونَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ حَيَاةٌ أَبَدِيَّة.” وهنا يذكّر المسيح عندما تذمّر اليهود على الله وعلى موسى عقصتهم الحيات، فصنع موسى حيّة نحاسية ورفعها فكان كل من ينظر إليها يخلص، ولكن خلاصه مؤقت(سفر العدد 21/ 5-9). وهكذا فالحيّة قد لسعتنا عندما خطئنا، وها نحن ننظر إلى المسيح المصلوب كي يخلصنا، وهنا خلاصنا أبدّي، إذ نرث الحياة الأبدية