إنّ أحد البشارة هو فاتحة الأعياد ومختصر لسائر الأعياد الأخرى، معه تبدأ معطيات المسيحيّة الأساسيّة وبه تحقّّق ويتحقّق مخطّط الله الخلاصيّ الذي يشمل جميع البشر. إنّه من أجمل صفحات العهد الجديد، فمن خلال هذا العيد، نرى في الأفق عيد الميلاد، عيد قدوم المخلّص إلى أرضنا. فضلاً عن ذلك، ما يضيف رونقًا وجمالاً على هذه الّلوحة الإنـجيليًة الرائعة، هو شخص أمّنا مريم العذراء، ففيها نـجد حنان الأمومة والطهارة والتواضع والاستسلام المطلق لمشيئة الله، فهي أمّ الله الشفيعة القديرة. لا شكّ في أنّ إنجيل بشارة العذراء مريم في الفصل الأوّل من إنجيل لوقا، يتمتّع بغنى لاهوتي كبير وأفكار كثيرة. نتوقّّف اليوم عند جواب العذراء مريم على ما بشرّها به الملاك، ومن خلاله نحاول أن نطبّق هذا الجواب بعيشه على مثال العذارء في حياتنا المسيحيّة.
في ذكرى البشارة، مريم تحمّل كلّ واحد منّا مسؤوليّة عظيمة. لقد قالت للملاك “نعم”، باسمها وباسم كلّ البشريّة وباسم كلّ واحد منّا. مريم إصطفاها الله وكان قلبها خاضعًا ومتواضعًا. قالت “نعم” بكلّ بساطة وثقة ومحبّة وقبلت المشاركة في سرّ تجسّد المسيح. وسلّمتنا هذه “النَعَم” نحن المسيحيون. فنحن في لحظة فريدة من حياتنا يُطرح علينا السؤال عينه والله يريد منّا الطاعة له. كلّ واحد منّا له يوم بشارة ولحظة دعوته من دنيا ذاته إلى دنيا الحياة مع الله، وفق ما أعطاه الله من مقدرات.
إخوتي، نحن مسؤولون كالعذراء مريم، من خلال “النَعَم” التي قالتها، عن حضور المسيح في حياتنا وفي العالم. نحن مسؤولون عن استمراريّة تجسّده. ألمسيح بحاجة أن نعطيه جسدًا ودمًا وقلبًا وعينين… لكي يستمرّ عائشًا بيننا وفينا. ألمسيح يريد أن يعيش ويتجسّد في صميم واقعنا البشري. يريد أن يتكلّم بواسطة لساننا ويبصر بعيوننا ويحبّ بقلبنا…. يريد أن نجسّد الطهر والنقاوة في أجسادنا ونفوسنا وأن ننتصر على الشر الذي يحاربنا. يريد أن نجسّد التواضع والاستسلام المطلق لإرادته القدوسة. يريد أن نعيش كلمة الإنجيل وأن نحفرها في قلوبنا وحياتنا.
هذا هو مفهوم عيش التجسّد في مسيحيتنا، فإنّ له أبعاد روحيّة عميقة تدخل إلى صميم كلّ واحد منّا، والبرهان على ذلك هو سرّ القربان “الخبز النازل من السماء” ( التجسّد ) كما قال المسيح عن ذاته، فهو الذي يفعل ويحقّق التجسّد في قلوبنا وفي حياتنا بقوّة الروح القدس. إنطلاقًا من هذه المعطيات، يجب أن نفهم ونعي بأن التجسّد هو سرّ واقعيّ وآنيّ ليس فقط حدثًا تاريخيًّا تمّ منذ ألفين سنة، إنه سرّ الحبّ الحاضر بأعماق قلوبنا، يريد أن يتفاعل فينا عبر قبولنا به. فلنتفاعل مع نعمة العطاء بِنَعَم حياتيّة متجسدة بالعيش والقبول بالله على مثال مريم العذراء أمّنا.
أخيرًا، تأمّلوا يا إخوتي ما حققّه جواب العذراء مريم بالنسبة للبشرية جمعاء. بالمقابل فلنتأمّل بما نفعله نحن، فالخير سينعكس خيرًا والشرّ سينعكس شرًّّا. أمّنا العذراء مريم، وجميع القديسين والقديس شربل، يعلموننا أنّ جواب الإنسان بالإيجاب على نداء الربّ يزيد الخير فينا وفي العالم. إنّ جواب العذراء مريم دعوة إلى كلّ واحدٍ منّا لكي نعي أهمية زرع الخير في هذه الدنيا، وأن نتخطّى التجارب التي قد نقع فيها عندما نسعى إلى الوصول إلى ما نريد بأيّ طريقة أو وسيلة ممكنة. وبذلك نزيد من بنية فاسدة تؤذي الجميع وتؤذينا أيضًا. صلاة مريم العذراء تكون معنا آمين